كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والخطاب في قوله تعالى: {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ} [الحشر: 18]، لكل نفس كما في قوله تعالى: {ثُمَّ تو في كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281]، وقوله: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} [آل عمران: 25].
فالنداء أولًا بالتقوى لخصوص المؤمنين، والأمر بالنظر لعموم كل نفس، لأن المنتفع بالتقوى خصوص للمؤمنين كما أوضحه الشيخ- رحمه الله عليه- في أول سورة البقرة، والنظر مطلوب من كل نفس فالخصوص للإشفاق، والعموم للتحذير.
ويدل للأول قوله تعالى: {وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيمًا} [الأحزاب: 43].
ويدل للثاني قوله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ والله رَؤُوفُ بالعباد} [آل عمران: 30]. وما في قوله تعالى: {مَّا قَدَّمَتْ} [الحشر: 18] عامة في الخير والشر، وفي القليل والكثير.
ويدل للأول قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30].
ويدل للثاني قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7- 8]، والحديث: «اتقوا النار ولو بشق تمرة»
وغدًا تطلق على المستقبل المقابل للماضي، كما قال الشاعر:
واعلم علم اليوم والأمس قبله ** ولكنني عن علم ما في غد عم

وعليه أكثر استعمالاتها في القرآن، كقوله تعالى عن إخوة يوسف: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف: 12]، وقوله تعالى: {وَلاَ تَقولنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله} [الكهف: 23- 24].
وتطلق على يوم القيامة كما هنا في هذه الآية لدلالة القرآن على ذلك، من ذلك قوله تعالى في نفس المعنى: {يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقول الكافر ياليتني كُنتُ تُرَابًا} [النبأ: 40].
والقرأئن في الآية منها: اكتنافها بالحث على تقوى الله قبله وبعده.
ومنها: التذييل بالتحذير في قوله: {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي بالمقاصد في الأعمال وبالظواهر والبواطن، ولأن يوم القيامة هو موضع النسيان، فاحتاج التنبيه عليه.
ويكون التعبير عن يوم القيامة بغد لقرب مجيئه وتحقق وقوعه كقوله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر} [القمر: 1]، وقوله: {وَمَا أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النحل: 77].
ومن ناحية أخرى، فإن الغد لكل إنسان بمعنى يوم القيامة يتحقق بيوم موته، لأنه يعاين ما قدم قدم يوم موته، وقد نكر لفظ نفس وغد هنا، فقيل في الأول لقلة من الناظرين، وفي الثاني لعظم أمره وشدة هوله.
وهنا قد تكرر الأمر بتقوى الله كما أسلفنا مرتين، فقيل للتأكيد، قاله ابن كثير، وقيل للتأسيس، قاله الزمخشري وغيره.
فعلى أنه للتأكيد ظاهر وعلى التأسيس يكون الأول لفعل المأمور والثاني لترك المحظور، مستدلي بمجيء موجب الفعل أولًا {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ}، ومجيء موجب التحذير ثانيًا {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
وهذا وإن كان له وجه، ويشهد للتأكيد قوله تعالى: {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] وإن كانت نسخت بقوله: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16] فيدل لمفهومه قوله: {وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} [التوبة: 102] أي بترك بعض المأمور، وفعل بعض المحظور.
وعليه فلا تحقق التقوى إلا بمراعاة الجانبين، ولكن مادة التقوى وهي اتخاذ الوقاية مما يوجب عذاب الله تشمل شرعًا الأمرين معًا لقوله تعالى في عموم اتخاذ الوقاية {قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6].
فكان أحد الأمرين بالتقوى يكفي لذلك ويشمله، ويكون الأمر بالتقوى لمعنى جديد، وفي الآية ما يرشد إليه، وهو قوله تعالى: {مَّا قَدَّمَتْ}، لأن (ما) عامة كما قدمنا وصيغة قدمت على الماضي يكون الأمر بتقوى الله أولًا بالنسبة لما مضى وسبق من عمل تقدم بالفعل، ويكون النظر بمعنى المحاسبة والتأمل على معنى الحديث: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا» فقد ذكره ابن كثير.
فإذا ما نظر في الماضي وحاسب نفسه، وعلم ما مكان من تقصير أو وقوع في محظور، جاءه الأمر الثاني بتقوى الله لما يستقبل من عمل جديد ومراقبة الله تعالى عليه {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10]، فلا يكون هناك تكرار، ولا يكون توزيع، بل بحسب مدلول عموم (ما) وصيغة الماضي {قدمت} والنظر للمحاسبة.
تنبيه:
مجيء {قدمت} بصيغة الماضي حث على الإسراع في العمل، وعدم التأخير، لأنه لم يملك إلا ما قدم في الماضي، والمستقبل ليس بيده، ولا يدري ما يكون فيه، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34] وكما في وقوله: «حجوا قبل ألا تحجوا»، وقوله تعالى: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [آل عمران: 133]، وقوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أولئك هُمُ الفاسقون} [الحشر: 19].
بعد الحث على توقى الله وعلى الاجتهاد في تقديم العمل الصالح ليوم غد جاء التحذير في هذه الآية من النسيان والترك وألا يكون كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، ولم يبين هنا من هم الذين حذر من أن يكونوا مثلهم في هذه النسيان، وما هو النسيان والإنساء المذكوران هنا.
وقد نص القرآن على أن الذين نسوا الله هم المنافقون في قوله تعالى في سورة التوبة:
{المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمنكر وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67] وهذا عين الوصف الذي وصفبوا به في سورة الحشر. وقوله تعالى: {فَنَسِيَهُمْ} أي أنساهم أنفسهم، لأن الله تعالى لا ينسى {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} [طه: 52]، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64].
وقد جاء أيضًا: وصف كل من اليهود والنصارى والمشركين بالنسيان في الجملة، ففي اليهود يقول تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} [المائدة 13].
وفي النصارى يقوله تعالى: {وَمِنَ الذين قالواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} [المائدة: 14].
وفي المشركين يقول تعالى: {الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُون} [الأعراف: 51]، فيكون التحذير منصبًا أصالة على المنافقين وشاملًا معهم كل تلك الطوائف لاشتراكهم جميعًا في أصل النسيان.
أما النسيان هنا، فهو بمعنى الترك، وقد نص عليه الشيخ- رحمة الله تعالى عليه- عند الكلام على قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه: 115] فذكر وجهين، وقال: العرب تطلق النسيان وتريد به الترك ولو عمدًا، ومنه قوله تعالى: {قال كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى} [طه: 126].
فالمراد من هذه الآية الترك قصدًا.
وكقوله: {فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الاعراف: 51].
وقوله: {فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هاذآ إِنَّا نَسِينَاكُمْ} [السجدة: 14].
وقوله: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} [الحشر: 19] الآية. انتهى.
أما النسيان الذي هو ضد الذكر، وهو الترك عن قصد، فليس داخلًا هنا، لأن هذه الأمة قد أعفيت من المؤاخذة عليه، كما في قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. الآية.
وفي الحديث أن الله تعالى قال: (قد فعلت قد فعلت) أي عند ما تلاها صلى الله عليه وسلم.
وجاء في السنة «إن الله قد تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»
وقد بين الشيخ- رحمة الله تعالى عليه- هذا النوع في دفع إياهم الاضطراب على الجواب عن الإشكال الموجود في نسيان آدم، هل كان عن قصد أو عن غير قصد، وإذا كان عن غير قصد، فكيف يؤاخذ؟. وبين خصائص هذه الأمة في هذا الباب رحمة الله تعالى عليه، فليرجع إليه.
وإذا تبين المراد بالتحذير من مشابهتهم في النسيان، وتبين معنى النسيان، فكيف أنساهم الله أنفسهم؟ وهذه مقتطفات من أقوال المفسرين في هذا المقام لزيادة البيان:
قال ابن كثير رحمه الله: لا تنسوا ذكر الله تعالى فينسيكم العمل الصالح، فإن الجزاء من جنس العمل.
وقال القرطبي: نسوا الله أي تركوا أمره، فأنساهم أنفسهم أن يعملوا لها خيرًا.
وقال أبو حيان: الذين نسوا الله هم الكفار تركوا عبادة الله، وامتثال ما أمر واجتناب ما نهى فأنساهم أنفسهم حيث لم يسعوا إليها في الخلاص من العذاب، وهذا من المجازات على الذنب بالذنب. إلخ.
وقال ابن جرير: تركوا أداء حق الله الذي أوجبه عليهم، وهذا من باب الجزاء من جنس العمل.
أما الزمخشري والفخر الرازي، فقد أدخلا في هذا المعنى مبحثًا كلاميًا حيث قالا في معنى {نَسُواْ اللَّهَ} [الحشر: 19] كما قال الجمهور، أما في معنى {فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} [الحشر: 19] فذكرا وجهين. الأول: كالجمهور، والثاني: بمعنى، أراهم يوم القيامة من الأهوال ما نسوا فيه أنفسهم كقوله تعالى: {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم: 43]، وقوله: {وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى} [الحج: 2] اهـ.
وهذا الوجه الثاني لا يسلم لهما، لأن ما ذهبا إليه عام في جميع الخلائق يوم القيامة، وليس خاصًا بما نسي الله كما قال تعالى في نفس الآية التي استدلا بها {وَتَرَى الناس سكارى}، فهو عام في جميع الناس.
وقوله: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج: 2]. والذهول أخو النسيان، وهو هنا عام في كل مرضعة {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} [الحج: 2] وهو أيضًا عام، وذلك من شدة الهول يوم القيامة، ولعل الحامل لهما على إيراد هذا الوجه مع بيان ضعفه، هو فرارهم من نسبة الإنساء إلى الله، وفيه شبهة العتزال كما لا يخفى.
ولوجود إسناد الإنساء إلى لاشيطان في بعض المواضع كما في قصة صاحب موسى: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63]، وكما في قوله تعالى: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين} [الأنعام: 68]، وقوله: عن صاحب يوسف: {فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ} [يوسف: 42].
ولكن الصحيح عند علماء السلف أن حقيقة النسيان والإنساء والتذكير كحقيقة أي معنى من المعاني، وأنها كلها من الله {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله} [النساء: 78]، {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} [التوبة: 51] فما نسب إلى الشيطان فهو بتسليط من الله كما في قوله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102]، ثم قال: {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [البقرة: 102] فيكون إسناد الإنساء إلى الشيطان من باب قول الخليل عليه السلام {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] تأدبًا في الخطاب مع الله تعالى، ولكن هذا المقام مقام إخبار من الله عما أوقعه بهؤلاء الذين نسوا ما أمرهم به فأنساهم، فأوقع عليهم النسيان لأنفسم مجازاة لهم على أعمالهم، فكان نسبته إلى الله وبإخبار من الله عين الحق وهو أقوى من أسلوب المقابلة: نسوا الله فنسيهم.